كان القذافى يتحدث إلى الشعب فى النيجر، وفجأة ترك سياق الحديث ثم قال للجمهور، لماذا تتحدثون اللغة الفرنسية، والرسول «صلى الله عليه وسلم» والصحابة لم يكونوا يعرفون اللغة الفرنسية؟!
وفى إحدى السنوات ألغى القذافى الأعوام الأربعة الأولى من التعليم الابتدائى، وقرر الاكتفاء فى تلك المرحلة العمرية بالتعليم فى المنازل!! وفى سنة أخرى قرر إلغاء تدريس اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية فى الجامعات.. لأن دراسة طلاب الجامعة لهاتين اللغتين تمثل عملاً غير ثورى، والثورى الحقيقى هو الذى لا يدرس اللغات الأجنبية!! وقد قام الطلاب الثوريون فى جامعة الفاتح بإغلاق قسمى اللغة الفرنسية والإنجليزية فى الجامعة، وأحرقوا عدداً من المراجع والكتب باللغتين!!
لكن القذافى سرعان ما قرر تدريس اللغة الروسية فى جميع المراحل الدراسية بعد إلغاء اللغة الإنجليزية!!
ــ 1 ــ
لقد أسهم «اللاعقل» عند معمر القذافى فى ركود الحياة الفكرية والثقافية فى البلاد، ولم يتمكن المثقفون ولا الرأى العام فى ليبيا من صياغة أى مشروع فكرى، حيث لم يكن هناك سوى «المشروع الفكرى العالمى» للقذافى.
وقد أدى عدم استقرار «الديكتاتور الهارب» على رأى واحد.. خطأ كان أو صواباً.. وكذلك الجو القمعى للجان الثورية.. إلى تحول الفكر السياسى الليبى طيلة أربعين عاماً إلى متفرقات من أقوال القذافى!!
ففى مرة يفتى القذافى بعدم أحقية المسلمين فى البوسنة والهرسك، وبأن الأديب البريطانى الأشهر «وليم شكسبير» هو مواطن ليبى اسمه «الشيخ زبير»، ومرة يقرر نقل العاصمة من طرابلس إلى «رأس لانوف» مسقط رأسه فى خليج سرت، لأنه لم يرض عن موقف سكان العاصمة الذين لم يثوروا ضد الغارة الأمريكية على منزله عام 1986!
ومرة يطلق نظرية عن «الراهبات الثوريات» التى تقول إن الرجل العربى مهزوم ولا يشرف أى فتاة أن تكون زوجة له، لذا على الفتاة العربية رفض الزواج والتفرغ للرهبنة الثورية، والراهبة الثورية لا تتزوج، وهدفها استفزاز الرجال العرب الخانعين ليعودوا لسلاحهم ونضالهم، وشعارها «لا أتزوج مهزوماً لأنجب مهزومين».
ومرة يقول «التعليم تدجيل.. والتعليم الإلزامى تدجيل إلزامى».. ومرة يهدد «سأحرق كل الكتب المضللة، سأشن ثورة على المكتبات والجامعات والمناهج الدراسية وعلى أى شىء مكتوب»!!!
ومرة يحرق الآلات الموسيقية والمصنفات الغربية، وفى أحد الأيام فوجئ مشاهدو التليفزيون الليبى بصورة حذاء تعترض الشاشة عدة أيام، وعلموا أن ذلك الحذاء الموضوع فوق الشاشة بسبب استياء القذافى من عدم تحقيق الوعى الثورى غايته!!
ومرة أصدر الفريق الغنائى «فرسان القذافى» أسطوانة بعنوان «العالم الثالث.. الطريق الثالث» نسبة إلى نظرية القذافى، وقالت صحيفة إنجليزية «من الواجب نقل أعضاء الفريق إلى مستشفى أو احتجازهم بإحدى المصحات العقلية»!!
ومرة يقول «تلْقُوا الواحد منهم يقول الدعوة ولّا الإخوان.. هذا تقطعوا له رقبته وتلوّحوه فى الشارع.. الآن نستطيع أن نعدم أى أحد، ما نخجل أبداً، نأتى به فى التليفزيون أمام العالم، نحضر جميع صحفيى العالم وأتركهم يتفرجون عليه.. نعدم حتى الأبرياء بقصد إرهاب الجانى الحقيقى الذى قد لا يكون معروفاً فى تلك اللحظة».
ومرة يقوم بافتتاح المؤتمر التأسيسى الأول لمقاومة الاستسلام والتطبيع مع العدو الصهيونى، وقبل أن ينتهى المؤتمر يقرر طرد آلاف الفلسطينيين من ليبيا إلى لهيب الصحراء فى انتظار المغادرة!!
ومرة يقرر تخصيص ثلاثين رأس ماشية لكل صاحب أغنام بعد أن تبين أن أصحاب العقارات الذين قام القذافى بتأميمهم قد اتجهوا لشراء آلاف الماشية!! ومرة يوجه نداء إلى جميع الممنوعين من السفر ليجتمعوا أمام إدارة الجوازات للتظاهر ضد قرارات المنع!!
ومرة يقول للجان حقوق الإنسان الغربية ليس لدينا معتقلون سياسيون، وأنا لا أعرف من الذى أدخل هؤلاء إلى السجون.. ينبغى أن يخرجوا.. وأن يحاكم الذين أدخلوهم!!
ــ 2 ــ
لقد عرضت تحليلاً مطولاً فى كتابى «حقوق الإنسان فى ليبيا.. حدود التغيير» الذى صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 1999 ــ للانهيار الفكرى والثقافى فى ليبيا بسبب استحواذ المفكر الأوحد والفيلسوف الأول معمر القذافى على كل شىء.
ويصف المعارض الليبى «السنوسى بلالة» حالة العقل فى ليبيا فى عصر القذافى قائلاً: إن القذافى عمل طيلة عهده من أجل ترسيخ فكرة أنه هو شخصياً وفقط مصدر الإشعاع الوحيد للفكر والثقافة فى ليبيا، وسعى لإقناع الجماهير بذلك.. سواء بالإرهاب الذى ألمّ بالمثقفين أو المبدعين، أو بالقمع الذى أحاط بالثقافة ووسائلها داخل البلاد عموماً، مما أدى إلى تردى وبؤس الواقع الثقافى واضمحلال مستواه على الجوانب كافة.
ولقد أتاح ذلك للقذافى فرص الظهور كبديل فكرى وثقافى وحيد، بعد إهالة التراب على إبداعات الأدباء الراحلين «خليفة التكبالى» و«يوسف الدلنسى» وغيرهما، وتوقف «الثقافة العربية»، المجلة الثقافية الوحيدة فى ليبيا، عن الصدور ليسطع نجم الكاتب والأديب معمر القذافى!
ــ 3 ــ
إن الفكر السياسى بل عموم التفكير فى ليبيا قد أصابه الكساد طيلة عهد القذافى، فالكتب والدراسات ومراكز البحث والجامعات والمعاهد والسينما والمسرح والتليفزيون والقصة والرواية والقصيدة.. كلها دخلت فى طور السكون!
وطيلة عهد القذافى لم يكن ممكناً سماع شىء عن فيلم أو مسرحية أو مطرب أو شاعر أو باحث ليبى له صيت خارج بلاده!
ــ 4 ــ
يروى الأستاذ محمد حسنين هيكل فى «المقالات اليابانية» أن وفداً ليبياً أمره القذافى بشراء قنبلة نووية من الصين بعد قيام الثورة الليبية عام 1969، وقد طلب الوفد أثناء مروره بالقاهرة لقاء الرئيس عبدالناصر ليطلعه على الموقف، فضحك عبدالناصر وقال: «هى القنبلة النووية فى سوبر ماركت»؟!
وبعد ثلث قرن قرر القذافى طواعية أن يسلِّم محاولاته من أجل الحصول على القنبلة النووية إلى مسؤولى المخابرات المركزية الأمريكية!
أقام القذافى فكرة الجماهيرية على الاشتراكية التامة، ثم قام لاحقاً بتعيين شكرى غانم رئيساً للوزراء وأعلن عن خصخصته المصانع والنفط والبنوك والمطارات والشركات العامة.. أى كل شىء تقريباً!!
أقام القذافى نظامه السياسى على المعاداة الظاهرية الشديدة للولايات المتحدة، وكان يتهم النظام الملكى السابق بالتبعية لأمريكا والغرب.
ثم فتح القذافى كل أبواب ليبيا للولايات المتحدة وأوروبا فى أخطر المجالات، وقال سيف الإسلام معمر القذافى فى حوار لصحيفة «صنداى تايمز»: «لن تمانع ليبيا فى أن تقوم قوات بريطانية أو أمريكية بعمل تدريبات عسكرية على أرض ليبيا»، وأعلن القذافى عن قرار ليبيا بحل مشكلة لوكيربى كما يريد الغرب، وكذلك تسليم كل مشروعها لإنتاج أسلحة الدمار الشامل إلى أمريكا، قائلاً: «سوف نحول سيوفنا إلى مناجل»!
كان القذافى يتحدث دوماً عن العروبة والقومية العربية والناصرية كمشروع أساسى لبلاده.. ولكنه طلب عدة مرات انسحاب بلاده من عضوية الجامعة العربية.. وشرح القذافى الابن «سيف الإسلام» التحولات الليبية التى سمحت بوجود عسكرى أمريكى وبريطانى فى ليبيا بقوله: «بمجرد أن أكد لى الأمريكيون والبريطانيون أنه لا توجد لديهم نية فى تغيير نظام القذافى.. فإن كل شىء سار بسلاسة»!!
ــ 5 ــ
لقد كان عهد القذافى أربعة عقود كاملة من غياب العقل.. وفى تقديرى أنه من المستحيل «يقيناً» أن يكون القذافى وهو بهذا المستوى العقلى قد تمكن من حكم ليبيا أكثر من أربعين عاماً.. بقدراته وإمكاناته وأطروحاته، شىء واحد يفسر بقاء القذافى رغم قوة المعارضة.. كل هذه السنوات.. كان القذافى عميلاً متميزاً لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية «سى. آى. إيه».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لادراج تعليق :-
اختر " الاسم/عنوان url " من امام خانة التعليق بأسم ثم اكتب اسمك ثم استمرار ثم التعليق وسيتم نشرة مباشرة