منذ بدأتُ العملَ الصحفىّ، قبل سنوات، كنتُ أكتبُ بين الحين والحين مقالاتٍ فى الشأن القبطى بمصر، ومنذ شهرين، زاد استشعارى بالخطر فكثّفتُ الكتابةَ فى هذا الشأن حتى طغى تقريبًا على جميع أعمدتى الصحفية، وكنت أتناولُ الأمرَ فى خطّين متوازيين. أحدهما مطالبةُ الحكومة بقانون موحّد لدور العبادة، والعودة لتطبيق بنود الخط الهمايونى العادلة، باستثناء البند الثالث المجحف، وتشديد الرقابة على وعّاظ بعض الزوايا الذين يسمّمون أفكار النشء بأقوال تُكفِّرُ الأقباط، فيما يصنعُ قنابلَ موقوتة تنفجر بين الحين والحين.
فإن كان أولئك غير قادرين على ابتكار شىء طيب لخُطب الجمعة، فلينقلوا «بالحرف» من فكر الإمام المثقف «محمد عبده»، ومطالبة وزير التعليم بإعادة بناء مناهج التعليم بحيث تنظر بعين الاعتبار لوجود طلاب مسيحيين، منهم أطفالٌ فى طور التشكّل، لهم أن يشبّوا فى مُناخ صحىّ يُشعرهم باحترام بلادهم لعقيدتهم. الخطُّ الثانى كنتُ أوجه فيه الكلامَ للمواطنين لكى نُراجع أنفسنا فى سلوكات وأقوال معيبة، يقولها الكثيرُ منّا دون وعى، ودون قصد ربما، لكنها تملأ قلب الأقباط بالحزن، واليأس من استعادة مكانتهم التى تليق بهم فى وطنهم، تلك المكانة التى ظلّت عالية حتى الستينيات الماضية، واليأس من استعادة المحبة التى كانت تربطهم بإخوتهم فى مصر، قبل أن تفسدها عواصفُ الرمال الشرقية والمدُّ الوهابى فى مصر، فتشرنّق الأقباطُ فى بيوتهم وفى كنائسهم، على أنهم لم يعودوا حتى آمنين على أرواحهم فى الكنائس، التى من المفترض أن تكون بقعةَ رحمة وسلام، طالما استشعرتُ الخطرَ من سموم بعض الوعّاظ غير المؤهلين.
وانفجر حدسى فى نجع حمادى فى عيد الميلاد ٢٠١٠، ووضعتُ يدى على قلبى رعبًا من القادم، وأنا أعلم أن التباطؤ فى عقاب المجرم بأغلظ العقوبة سيجعلها تحدث مرةً ومرات. لكن أكثر شياطين خيالى استشرافًا للخطر، لم يستطع أن يرسم لى شيئًا فى بشاعة مذبحة الإسكندرية. لكنها، على بشاعتها، أفرزت شيئًا طيبًا، حسٌّ وطنيّ حقيقيّ وعميق، وقفاتٌ احتجاجية ضد التطرّف ملأت شوارعَ مصر وميادينها، المتحضرون من الأكثرية احتضنوا الأقليةَ الحزينة، وصنعوا دروعًا بشرية تحمى أصدقاءهم فيما يُصلّون فى عيدهم، صحوةُ التليفزيون فى تعزيز مكانة الأقباط، محاولاتٌ لجعل أول يناير عيدًا للوحدة الوطنية، قصائدُ جميلةٌ كتبها شعراءُ مصريون باكون على حال الوطن. قال بهيج إسماعيل: «لو شفت الأم/ إزاى بتضم/ ابنها بالليل/ وإزاى بتلمّ/ اللفة عليه/ لجل تدفّيه/ راح تعرف إيه/ معناة السلم./ لو شفت الأم/ إزاى بتضم /ابنها مقتول/ وإزاى بتلم/ الصرخة عليه/ لجلن تحييه/ راح تعرف إيه/ معناه الظلم/ مسلم ومسيحى/ واحد فى الهم».
أصبحنا نسمع كثيرا كلمة «مصريين»، وهو ما كان رجائى البعيد المنال. مصريون نحن، لا عربًا ولا عجمًا، فقط مصريون. هذه الصحوةُ الوطنية التى ازدهرت بين ربوع مصر، علينا أن نتذكر أن ثمنَها كان غاليًا، أدعو اللهَ ألا تخمُد بعدما تهدأ القلوبُ وتجفُّ دماءُ الشهداء، أتمنى أن تكون المحبةُ هى المغنمَ الذى نعضُّ عليه بالنواجذ بعدما دفعنا سيولَ الدم ثمنًا لها، دعوها تظل مزدهرةً فى السرّاء كما فى المحن.
أما لماذا كتبتُ بهذه الغزارة فى هذا الشأن؟ فلأننى طوالَ الوقت أفعل ما فعله فضيلة شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، حين سُئل فى برنامج «العاشرة مساءً» عن شعوره إزاء تطاوُل بعض الشباب المسيحىّ الثائر خلال زيارته الكاتدرائية، قال: «إنه يُقدِّر الظروفَ ويضع نفسَه مكانهم»، هكذا أفعل منذ سنين، أضعُ نفسى مكانَهم فى كل موقف يحزنهم؛ فأحزنُ لهم، وأكتب لأن الصمتَ مِقصلةُ الضمير، كما قال محمود درويش. ولأننى أرفضُ أن يدفعنا اختلافُ العقيدة إلى الجَوْر والتجنّى، ولكن أنْ يضعَ الإنسانُ نفسَه محلّ الآخر ليشعر بشعوره، لا يُختصَر فى تحمّل لحظات غضبه، وحسب المسألةُ عندى أوسع من ذلك وأعمق، ولهذا حديث آخر.
المصدر :المصرى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لادراج تعليق :-
اختر " الاسم/عنوان url " من امام خانة التعليق بأسم ثم اكتب اسمك ثم استمرار ثم التعليق وسيتم نشرة مباشرة