بقلم بلال فضل ٨/ ١/ ٢٠١١ |
طيب، الآن وبعد أن ذهب الكثير من أفراد نخبتنا وبعض من مواطنينا المسلمين إلى الكنائس للتضامن مع إخوتنا المسيحيين، لم يذهبوا للاعتذار، كما صور بعض المتطرفين من الجانبين بل لإثبات أن المسلمين والمسيحيين يقفون صفاً واحداً فى مواجهة الإرهاب، لكن بعد كل ما قمنا به من تضامن ومؤازرة أخشى ما أخشاه أن نظن جميعاً أننا حققنا شيئاً يُذكر فى ميدان محاربة الفتنة الطائفية. للأسف مع احترامى للجميع، إحنا بنكلم بعض، المشكلة ليست عندنا، وأعنى بعندنا الكثيرين من قراء هذه الصحيفة وربما قراء الكثير من الصحف وأغلب مشاهدى برنامج (المصريون) الذى افتقدنا فيه بشدة عمرو أديب وإبراهيم عيسى، المشكلة هناك تحت، تحت خالص، حيث تشكل بفعل نظام الحزب الوطنى المبارك على مدى السنين خليط فتاك من الفقر والجهل والتحيزات الخطرة والأفكار المشوشة، ومواجهة ذلك الخليط القاتل لن تكون فقط بالمحبة، بل ستكون بالقانون أولاً وقبل كل شىء، القانون الذى يحظر التمييز بين المصريين ويوقف المتعصبين عند حدود القانون، ثم بخطة وطنية طويلة المدى تتكامل فيها أجهزة التعليم والثقافة والإعلام، وقبل كل ذلك يتوقف الحرامية الكبار (كرهاً وليس طوعاً، وبأيدينا وليس بأيديهم) عند هذا القدر من نهب وإتلاف المال العام، لأن استمرارهم فى السطو المسلح على مصر سيفجر الأوضاع ولن يمكّنهم هم وذويهم من الاستمتاع بما سرقوه بالفعل، فضلاً عن أنه لن يترك لهم شيئاً يسرقونه فى المستقبل، ومصر خيرها كثير والحمد لله. أرجوكم تذكروا دائما أن «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وأن المحبة لن تؤثر كثيراً على قلوب تريحها الكراهية وتعينها على احتمال الحياة، خذوا دروساً من الدول التى كانت تعانى بشكل رهيب من العنصرية والتوترات العرقية، وتمكنت من تحجيم هذه المشكلة إلى حدود متفاوتة بفعل دولة القانون، فالتعصب سيظل دائماً موجوداً، لكن القانون هو الذى يجبره على البقاء حبيس العقول المظلمة والصدور الخربة، لا أحد فينا يعتقد (أو هكذا أتمنى) أن الفتنة الطائفية سيقضى عليها أن نبوس إخوتنا المسيحيين من هنا ومن هنا، وأن يأخذونا بالأحضان حتى تتهشم ضلوعنا جميعاً من فرط المحبة، كما أن الفتنة بالطبع لن تقضى عليها اقتراحات يطلقها بعض المثقفين بحسن نية ويظنون أنها فتاكة جداً، أتحدث عن اقتراحات من نوعية إلغاء خانة الدين فى البطاقة وإلغاء المادة الثانية من الدستور وإلغاء بناء المساجد أمام الكنائس وألا نذكر أصلاً بأن هناك مسلمين ومسيحيين فى مصر وأن يعلم المسيحيون أبناءهم الإسلام ويعلم المسلمون أبناءهم المسيحية، فلو نزل هؤلاء المقترحون إلى قلب الشارع لأدركوا أن تلك الاقتراحات لا تزيد طينة الفتنة الطائفية إلا خبالا. أرجو أن تدخلوا إلى عشرات مواقع الإنترنت وجروبات الـ«فيس بوك» أو تتجهوا إلى أقرب قهوة مجاورة لتعرفوا ردود فعل الناس على اقتراحات بريئة مثل هذه، ولنا الكلام بعدين، عن نفسى حرصاً على عدم زيادة الطين هباباً سأتجاهل كل ردود الأفعال الكريهة التى تعرضت لها قراءة وسمعاً ومشاهدة، وأكتفى بالإشارة إلى رسالة بعثها لى قارئ مسيحى بعنوان «إذا كان هؤلاء هم المعتدلون فلنا الله»، ومع رسالته أرسل لى رابطاً لجروب فى الـ«فيس بوك» تنصح فيه مواطنة مسلمة إخوانها المسلمين بأن «يبتعدوا عن الفتنة والتعصب، وأن يحسنوا معاملة المسيحيين لأن هذا هو السبيل لكى نحببهم فى الإسلام ونكون سبباً فى هدايتهم إليه». ستسألنى: طيب يا فلحوس، ما هو الحل إذن؟، أعود لأكرر الحل فى الدولة المدنية، ولكن علينا أولاً أن نتفق على تحديد هذا المصطلح وتعريفه، لكى نعرف جميعاً عن ماذا نتحدث، لكى لا أجد مثلاً من يتهمنى عندما أدعو إلى الدولة المدنية بأننى «رجل علمانى منفلت يسعى لأن أحرم الحجاب وأسمح بشرب الخمور فى الشارع زى ما بيحصل فى سوريا»، وهو ما جاء فى مقطع من رسالة لقارئ كريم لا يعرف أن الخمور تباع أيضاً فى مصر وأن الحجاب ليس محرماً فى سوريا، لكنه على أى حال كان الأكثر تهذيباً بين سيل من الرسائل التى وصلتنى لاعنة سنسفيلى وسنسفيل كل من يسعى مثلى لمحاربة دين الله عز وجل، وهى رسائل فكرت أن أبعث لمرسليها برسائل جاءتنى من بعض القراء المسيحيين تتهمنى بأننى متعصب يلوم الضحية ولا يكتفى بلوم الجانى، فضلاً عن اتهامهم لى بأننى مناصر للعلمانيين المارقين المعارضين للكنيسة بسبب مطالبتى المتكررة بإبعاد الكنيسة عن الصورة وعدم التورط يوماً بعد يوم فى السماح لها بأن تكون متحدثاً باسم المسيحيين، لكن الوقت لم يسمح لى بذلك، وأرجو أن أكون بإشارتى إلى تلك الرسائل فى عجالة عَرّفت الجميع على بعضهم، ووفقت رؤوساً فى التعصب. أنا آسف لابد أن أشير إلى نموذج آخر رغبة فى التوضيح لمن اختلط عليهم الأمر بعد قراءة مقالى يوم الخميس الماضى، هل تصدق أن قارئاً مسلماً بعث إلىّ رسالة لو أرفقتها ببلاغ إلى النيابة ستكون بمثابة جريمة مضمونة العقاب، لأن فيها ألفاظاً أقل ما توصف به أنها قبيحة، وسيادته يتهمنى بأننى فبركت رسالة شاهدة العيان التى نشرتها يوم الخميس، لأنه على حد تعبيره «لا يوجد مسيحى فى مصر يبكى على دماء المسلمين التى تسيل فى العالم»، وأنا أرجو أن تنشر «المصرى اليوم» الصور التى جاءتنى مرفقة بالرسالة لكى يتأكد القارئ الأبيح أن الرسالة صادقة فى كلامها وفى ألمها، وأنه صدق أو لا تصدق، كما يوجد مسيحيون متعصبون فى مصر يوجد ملايين من المسيحيين يفيضون إنسانية وحباً للخير والسلام ولا يرغبون فى أكثر من نيل حقهم فى أن يعيشوا كمواطنين كاملى المواطنة، وهو حلم يشاركهم فيه ملايين المسلمين الذين لا يحظون أيضاً بحقوق المواطنة. وأنه أيضاً صدق أو لا تصدق: كما يوجد أناس يتحلون بالمسؤولية ويرغبون فى علاج ناجع لهذا الملف الشائك، يوجد الدكتور حسن نافعة الذى لا يفكر حتى فى شهادة الدكتوراه التى يحملها، قبل أن يردد كلاماً من عينة أن هناك من المسيحيين المتعصبين من قرر أن يفجر الكنيسة لكى يدفع أمريكا إلى التدخل، وهو كلام استمعت إليه نقلاً عن سائق توك توك، لكن الفرق أن سائق التوك توك لا يكتب فى «المصرى اليوم» ولا ينتظر منه المساهمة فى تغيير مصر، على أى حال ما كتبه الدكتور حسن نافعة أمر يساهم فى المزيد من رد الاعتبار للدكتور محمد البرادعى الذى يثبت يوماً بعد يوم أن له نظرة فى الناس. أعلم أن عمرى سينقصف قبل أن يأتى اليوم الذى يفكر فيه كل شخص يسعى للتعبير عن رأيه بأن يقرأ بتعمق فى الموضوع الذى قرر أن يدلى بدلوه فيه، خصوصاً أننا نتحدث عن أناس يمتلكون أجهزة كمبيوتر ويدخلون على الإنترنت، يعنى لا يمكن أن يتحجج أحد منهم بأنه لا يمتلك إلى المعرفة سبيلاً، وربما لو قرر الذين يعتبرون الحديث عن الدولة المدنية كفراً بواحاً، أن يقوموا بعملية بحث متواضعة عن ذلك المفهوم لعرفوا أن هناك اجتهادات عديدة فى مفهوم الدولة المدنية بعضها من إسلاميين مستنيرين (خذ عندك اجتهاداً متعمقاً قدمه حزب الوسط مثلاً والذى تجهض الحكومة المباركة قيامه مع سبق الإصرار والترصد لأنها هى أيضاً ضد الدولة المدنية التى ستوقف مصالح المتنفذين فيها)، وكل تلك الاجتهادات تفرق بين مفهوم الدولة المدنية الرشيدة الذى نتمناه لبلادنا وبين مفهوم الدولة العلمانية الذى أعتقد فى رأيى المتواضع الذى لا ألزم به أحداً أن المطالبة بتطبيقه فى مصر ضرب من العبث. لا يمكن أن تمنع إنساناً من أن يضيع عمره على الفاضى فى مطاردة وهم لن يتحقق، لكن يمكن أن تضيع عمرك فى تذكير المصريين بأن مصر كانت بالفعل دولة مدنية فى فترات من تاريخها قبل ثورة يوليو، كان يحكم فيها أهل الكفاءة بناء على انتخابات حرة نزيهة، وكانت مصر أقرب إلى جوهر الدين رغم أنه لم يكن يحكمها رجال دين، ورغم أن تلك الفترات لم يتح لها أن تستمر طويلاً بفعل الاحتلال والقصر وخيانات النخبة، لكن مصر عاشت على الأقل أيامها مشروع دولة مدنية كان يمكن أن تحقق نهضة كنهضة اليابان، يكفى أن أشير فى عجالة إلى أنه جاء علينا زمن كان فيه رئيس مجلس النواب مسيحياً مصرياً دون أن يثير ذلك رفضاً شعبياً أو يتسبب فى تخلى الناس عن حزب الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة، والسبب أن المصريين كانوا ملتفين وقتها حول مشروع وطنى يقاوم الاحتلال وهيمنة الملك معاً، ولذلك نجحوا فى زمن قياسى أن يتجاوزوا آثار فتنة طائفية كاسحة اندلعت بالمصادفة فى الإسكندرية عام ١٩١١، ولو قرأت تفاصيل ما حدث يومها لاندهشت من كل ما يكتب عن إسكندرية التى تبدلت فى يوم وليلة، مع أن أى قارئ متعمق لتاريخ الفتنة الطائفية يدرك أن بذور الفتنة دائماً كانت موجودة فى النسيج المصرى، وكانت دائماً تنبت وتورق وتثمر عندما يغيب المشروع الوطنى وتموت مدنية الدولة ويحكم من ليس أهلا للحكم. الطريق طويل، والحياة قصيرة، ومصر تحتاج إلى دولة مدنية، والدولة المدنية يلزمها فى أوطاننا المهووسة بفكرة البطل الشعبى قائد يحيى مشروعها، والقائد تصنعه شرعية شعبية تلتف حوله، والشعب تم تضليله ومسخ هويته ولن يستعيدها إلا على أيدى مثقفين حقيقيين يتوحدون سويا ليحدثوا تأثير العامل الحفاز فى التغيير، والدولة تحارب المثقفين الحقيقيين لأنها تحتاج مطبلاتية على مقاس مصالحها، والأمر برمته ورمامته يبدو مستحيلا ويدعو لليأس، لكن اليأس كفر، واليأس والكفر دواؤهما الوحيد الإيمان، والإيمان يتطلب منا أن نغير أنفسنا أولا، فنسعى لمعرفة ما نعارضه حتى نحكم على بينة. نهايته، إذا كنت تحلم بأى حل لما يحدث فى مصر الآن عليك أن تتذكر أن البداية ستكون منك أنت، من وعيك ومعرفتك التى عليك أن تكتسبها أولا بالقراءة والتحصيل والنقد والشك والتثبت، ثم عليك بعد ذلك أن تسعى لنشرها بين أفراد أسرتك وجيرانك وأصدقائك وزملائك، لكن هل تريد حقا أن تبدأ؟، عند هذا السؤال أنهى كلامى. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لادراج تعليق :-
اختر " الاسم/عنوان url " من امام خانة التعليق بأسم ثم اكتب اسمك ثم استمرار ثم التعليق وسيتم نشرة مباشرة