بقلم - أيمن شعبان:
متفاجئ ومصدوم ، ربما مثلك، أو أكثر، فهناك من بني وطني من يلعنون ثورة التحرير وما تلاها ، ويترحمون على عهد الرئيس السابق ونظامه، بالرغم من أنهم ليسوا من بقايا النظام السابق أو فلول الحزب الوطني المأسوف على شبابه، إنهم مواطنين بسطاء غاب عنهم الكثير، وربما نخسر بهم ما هو أكثر.
فخلال زيارة خاطفة لقريتي القابعة في قلب الريف المصري، دار بيني وبين كثيرين ممن أعرفهم وممن قابلتهم بمحض الصدفة حوارات، ومناقشات، بدأت بلا هدف واضح وانتهت بصدمة؛ ما فاجأني هو وجود رأي عام يتقارب في مضمونه لدى كل من قابلتهم، وإن جاء مختلفا في بعض التفاصيل، مفاده هو أن "الثورة أخذت ولم تعط شيء"، وجاءت ردود الأفعال مشبعة بأمنيات ترجت لو أنه لم تقم الثورة ومترحمة على أيام النظام البائد.
البداية كانت مع كلمات "عم تركي" سائق إحدى سيارات الأجرة وأول من قابلتهم في رحلتي مغادرا قاهرة الثورة، دالفا إلى قريتي الهادئة، حيث قال لي:" انت بقى من شباب الثورة إيللي خربوا البلد".. فرددت متعجبا: "خربناها إزاي بس.. ده احنا ايللي عمرناها".. فرد:" أيوه خربتوها قبل الثورة كانت قطع الغيار بتاع العربية موجودة وبالسعر ايللي انت عايزه.. عايز غالي فيه عايز حاجه على قدك تمشي الحال موجود.. دلوقتي بندوخ على اي حتة وبنعطل أسبوع واتنين على ما نلاقيها.. وبنجيبها بالغلا وإن كان عاجب".
"غير إن الجاز والبنزين معدناش لاقينهم.. وبنقف ليلة بطولها في البنزينه ويتلاقي يا ماتلاقيش .. ياتجيب من السوق السودا وإضرب السعر في اتنين.. لكن ايام الريس كان فيه ازمه آه يوم اتنين لكن برضه كنا بنلاقي.. وكنا شغالين.. كنا اه تعبانين .. لكن عارفين نعيش.. مش زي دلوقتي.. مش عارفين نلاقيها من اين.. غلا وكوا وسولار وبنزين وإتاوات وبلطجية.. الله يرحمك يا مبارك".
وحاولت أن أذب ما التصق خطأ بثوب الثورة موضحا الأمر، إلا والتقط أحد الركاب- يبدو من هيئته انه موظف- خيط الحوار قائلا:" يخرب بيت الثورة على إيللي عملوها.. من ساعة الثورة ما قامت والبلاوي عماله ترخ فوق دماغنا.. المرتبات بتتأخر.. وكل حاجة عمالة تغلى.. حتى الأجرة السواقين عملوا اضراب قاموا رافعين الأجرة.. مش عارفين نلاحق على إيه والا إيه".
ولم ألبث ان انتهيت من رسالة الإحباط التي بثها السائق وضيفه الموظف، حتى اصطدمت ، بمجموعة من جيراني من الفلاحين متجمهرين بحقل احدهم، دلفت إليهم، وسألت بشكل تقليدي عن الأحوال، آملا في إجابة تهدئ من روعي، إلا أني وجدت شكوى عامة من نقص الأسمدة، وغلاء أسعارها حال توفرها، علاوة على مشاكل في مياه الري، ووجدت في عيون الجميع وعلى السنتهم نظرات وكلمات كلها لوم وعتاب باعتباري واحد من" بتوع ميدان التحرير".
وبالقرب من منزلي وجدت عم جلال- نسيت ان اقول انه بالرغم من ان القرية فقدت الكثير من ملامحها وجوهرها إلا انها مازالت تحتفظ ببعض تقاليدها منها ان كل من يكبرنا نناديه بعم أو عمة-؛ واقفا والدموع تملأ عينيه وبجواره عدد كبير من الجيران يواسونه، وباستجلاء الأمر علمت ان مجموعة من اللصوص سطوا على حظيرته وسرقوا "جاموسته" الوحيدة والتي يقتات من نتاجها من اللبن والسمن وينفق على احتياجاته اليومية وتكاليف تعليم طفليه.
وبعيون تملأها الدموع خاطبني: شفت يا أستاذ! الجاموسة اتسرقت وكلمنا القسم من الفجر ومحدش عبرنا- وللعلم الشرطة وصلت بعد الحادث بيومين- سرقوا ايللي حيلتي طب قوللي هاكل من اين انا وعيالي وهاعلمهم ازاي.. هي دي الثورة بتاعتكوا.. لو كانت الحكاية كده يبقى ملعون ابو الثورة يا جدع.. ولا يوم من ايامك يا مبارك.. بتقولوا كان بيسرقنا بس على الأقل كان حامينا.. روح قول لحكومة الثورة بتاعتك يا ترجعلي الجاموسة يا تأكلني أنا وعيالي".
وعبثا حاولت ان أهدئ من روعه مبرئا الثورة من هذه الاتهامات، شارحا مساوئ مبارك ونظامه، ومحاولا عرض اهداف الثورة، حيث قوبلت كلماتي بهجوم جماعي من المحيطين والمتعاطفين مع عم جلال بعد الكارثة التي ألمت به، لامحا نظرة تساؤل في عيون الجميع:" يا ترى الدور على جاموسة مين فينا؟!"، وإجلالا للموقف الإنساني قررت الانسحاب.
وأخيرا دخلت إلى بيتنا الصغير الهادئ ممنيا النفس بسويعات من الهدوء لتفريغ الشحنات، وبمجرد الانتهاء من مراسم استقبال الابن العائد من المحروسة، إلا وفاجأتني جارتنا "العمة صفية" بقائمة من الشكاوى، بدأتها بمشاكل التموين واختفاء الأرز والزيت من قائمة السلع التموينية، مرورا بغلاء الأسعار بما فيها الخضروات التي تنتجها قريتي، انتهاءً بطلب البحث عن وظيفة لابنها الذي فقد عمله بسبب أحداث الثورة، ولم تنسى ان تختتم طلبها بـ" حلهالنا بقى يا بتاع الثورة.. والا يوم من ايامك يا مبارك".
ما عرضته لم يكن نبت من خيال أو محض افتراء إنما مواقف واقعية عايشتها بنفسي، وأصحابها لا يمثلون أنفسهم كأفراد وإنما هم عينة من قطاع عريض في المجتمع يغيب عنه كثير من الوعي السياسي، لظروف مختلفة، إما لأسباب تعليمية لانتشار الأمية والتي تقول التقديرات إن 40 % من المصريين يعانون منها ، أضف لهؤلاء من لا يجيدون التعامل مع ثورة المعلومات والتكنولوجيا لعدم القدرة أو المعرفة أو العزوف.
هذا القطاع العريض من كارهي الثورة لتأثر أقواتهم أو أوضاعهم الأمنية والاجتماعية، وبرغم أن أغلبهم ليسوا من بقايا النظام او فلول الوطني إلا إنهم يشكلون خطرا حقيقيا على الثورة، وخاصة في المرحلة المقبلة والتي ستشهد انتخابات عدة، وهؤلاء يؤكدون أن هناك قصورا شديدا في التعريف بالثورة، وبيان اهدافها ونتائجها، والمأمول منها، حتى الآن.
ما خلصت به من مناقشاتي وخلافاتي أن الثورة يجب الآن أن تخرج من ميدان التحرير، ومن صفحات الفيس بوك، وتويتر لتصل إلى "عم تركي" السائق، و"عم جلال" الفلاح، والموظف -إيللي مش عارف إسمه-، و" عمة صفية"، وإلى هؤلاء الذين مازالوا لا يعرفون لماذا قامت الثورة، لأنهم كانوا ومازالوا لا يهمهم سوى لقمة العيش وقوت اليوم، او لأسباب أخرى، فالثورة لن يكتمل نجاحها إلا إذا تحولت إلى ثقافة واستطاعت ان تصل إلى هؤلاء القابعين بعيدا عن ميدان التحرير، والذين لا يملكون حسابا على فيس بوك او تويتر.
ملحوظة: الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأى موقع مصراوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لادراج تعليق :-
اختر " الاسم/عنوان url " من امام خانة التعليق بأسم ثم اكتب اسمك ثم استمرار ثم التعليق وسيتم نشرة مباشرة