لم أشاهد فيلم «شارع الهرم»، ولن أذهب بالقطع إلى مشاهدته، ربما لأننى اكتفيت بعشرين عاما سكنت خلالها فى شارع الهرم، لكن نجاح هذا الفيلم فى أيام العيد الثلاثة وحجم ما بلغه من إيرادات لا يحتاجان ناقدا سينمائيا، بل خبير فى علوم الاجتماع والنفس ليشرح سره، ثم ابحث عن السياسة التى تجلس فى شباك التذاكر!
ليست هذه هى المرة الأولى التى يكتسح فيها فيلم مغمور وتافه إيرادات السينما، فهذا أمر طبيعى، بل لعله الأمر الطبيعى الوحيد فى السينما المصرية منذ عام 1927، حين ظهر أول فيلم ناطق، لكن المسألة تأخذنا إلى أبعد من السينما، عندما نتحدث عن أول فيلم ينجح بعد ثورة 25 يناير، وأول فيلم يحقق سبعة ملايين جنيه فى ثلاثة أيام «ثورية»!
اللافت للانتباه هنا أن المصريين الذين يتحدثون عن أزمات مالية، وعن توقف عجلة الإنتاج، وعن تراجع السوق، وتقلص حركة البيع والشراء، وهذه الأمور التى باتت عنوانا لأى كلام عن اقتصاد ما بعد يناير، ينفقون أكثر من ستة عشر مليون جنيه فى أيام العيد حصيلة شراء تذاكر سينما.
ربما يعطى هذا ملمحا مؤكدا عن أهمية الترفيه فى حياتنا، وأن الذهاب إلى السينما واحد من أكثر وسائل البهجة والاحتفال بالعيد فى حياة المصريين، وسنلاحظ أن الأغنياء سافروا إلى الساحل الشمالى، والطبقة المتوسطة إما سافرت إلى بلدتها الريفية أو أقرب مصيف لها، لكن الطبقات الشعبية ومحدودى الدخل لا عيد لهم إلا بالسينما والمراجيح وشراء المسدسات البلاستيك تقريبا!
ثم يبقى أن الجمهور الذاهب إلى السينما (وإلى فيلم «شارع الهرم» من بطولة سعد الصغير، والراقصة دينا غير الصغيرة تحديدا) هو فى جملته من الشباب، الذى هو الجيل المحتفى به باعتباره صانع الثورة، فإذا بأقران هؤلاء الشباب، وربما هم أنفسهم الذين خرجوا فى مظاهرات الثورة يذهبون بإقبال ساحق إلى فيلم «شارع الهرم»!
كذلك هذا الفيلم هو أكثر فيلم تعرض لحملة ضده من عدة دوائر على مواقع الإنترنت، وصفحات الـ«فيسبوك»، سواء من السلفيين الذين اتهموه بالخلاعة ودعوا إلى مقاطعته، وكذلك نشطاء الثورة الذين اتهموه بالتفاهة التى لا تليق بمصر بعد الثورة، وأن موقف سعد الصغير من الثورة كان سلبيا (بذمتك ماذا يفهم سعد الصغير فى السياسة أو فى الحكم لنطلب منه رأيا فى الثورة أو فى مبارك؟ الحياة نحتاية عند سعد فاتركوه ينحت ما دام لا يؤذى أحدا، فلا ينتظر رأى سعد السياسى إلا طبال سعد فى الفرقة!)، المهم دعا هؤلاء إلى مقاطعة الفيلم، لكن أحدا لم يقاطعه بل زاد الإقبال عليه، وارتفعت إيراداته إلى رقم غير مسبوق.
وهو ما يمنحنا فرصة لنعرف أن الشارع (لا أقصد شارع الهرم) لا يسلم نفسه بسهولة إلى أى تيار، فلا السلفيون بدعوتهم ذات الطابع الدينى، أثروا فى عشرات الآلاف الذين دخلوا الفيلم، ولا حماسة النشطاء وغيرتهم على الثورة أتت بنتيجة مع عقول الجمهور.
نحن إذن فى حاجة إلى أن نفهم الجمهور فعلا.
صحيح أنه فى فترات الحروب والثورات تنجح الأفلام الفكاهية غالبا، بل وكلما زادت نسبة الترفيه زاد نجاحها وتضاعف جمهورها، وهذا ينطبق على مصر منذ «كشكش بيه»، و«سلفنى تلاتة جنيه»، وحتى «العتبة جزاز»، و«شنبو فى المصيدة»، و«عماشة فى الأدغال»، لكن الحاصل أن البعض منا كان ينتظر صحوة وعى فى الفن بعد الثورة واعتزاز الجمهور بكرامته، بحيث لا يستكرده فيلم تافه، لكن هذا لم يحدث، فالثورة -عند قطاع من الجمهور- اختلطت بالفوضى، وبالانفلات الأمنى، وبالعنف والروح العدوانية، ثم كان اللجوء إلى فيلم يريح الدماغ هروبا عند البعض أيضا من الحجم الجنونى للمناقشات السياسية فى التليفزيونات، ومن هواجس الخوف على تغيير شكل الحياة الطبيعية إذا سيطر التيار الدينى على الحكم، مما جعل الجمهور فى حاجة ماسة إلى فيلم يسلى، وينسى، ولهو يلهى!
إذا لم تتحول الثورة على يد نشطائها إلى طاقة إيجابية وإشعاع أمل وتوقفت عن جعلها عنوانا للكسح والاكتساح، والانتقام، والانقسام، وإذا لم يصبح التيار الدينى متسامحا، مستوعبا، وتوقف عن حالة الترهيب والتخويف، وبث الذعر، والتلويح بالعنف، ستذهب مصر كلها إلى شارع الهرم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لادراج تعليق :-
اختر " الاسم/عنوان url " من امام خانة التعليق بأسم ثم اكتب اسمك ثم استمرار ثم التعليق وسيتم نشرة مباشرة