لندن - كمال قبيسي
للعبارة التي قالها المهندس المدني السوري باسل قس نصر الله من أن وزنه يزيد في شهر رمضان، أهمية خاصة جعلتها عنوان هذه المقابلة التي تمت معه الثلاثاء 20-7-2010 عبر الهاتف، فهي تدل على ما يلقاه من ترحاب لدى المسلمين في مدينة حلب حيث يقيم، لأنه لا يمر يوم من أيام الشهر الكريم إلا ويكون مدعواً الى مائدة إفطار أو سحور مليئة بما لذ وطاب، مع أنه مسيحي روم كاثوليك، وفوق ذلك فهو مستشار مفتي سوريا الشيخ بدر الدين حسون.
والمهندس نصر الله هو المسيحي الوحيد في العالم الذي يعمل مستشاراً لمفتٍ مسلم، وهي وظيفة قد تلهب مخيلة الذين لا يجدون أمامهم إلا نظرية المؤامرة كلما افتقروا للمعلومات، كواحدة مهمة يجهلها كثيرون، وربما ذكرها لأول مرة في رد منه على من يعتقد أن راتبه لابد أن يكون كبيراً وله توابع من امتيازات خاصة وغيرها من الإفادات لنفسه.
أما هو فيقول: "أي راتب وأي امتيازات. أنا لا أتقاضى فلساً واحداً من عملي كمستشار، بل إن جميع تكاليف ممارستي للعمل مع سماحة المفتي هي من جيبي الخاص، إلا حين أرافقه في رحلة الى الخارج طبعاً، عندها يدفع هو من جيبه"، وفقاً لتعبير المهندس البالغ من العمر 52 عاماً.
ومستشار المفتي مرح وشفاف ويحلو له أن يؤكد على كلمة "قس" في اسمه دائماً، فلا يكتبه أو يلفظه إلا رباعياً، بل لا يدعك أنت أن تلفظه من دون كلمة قس التي يبدو أنه يريدها للتأكيد على ديانته، فهو يفخر بأنه مسيحي استطاع اختراق قيود ومسلمات صعبة في هذا الوقت بالذات، الى درجة وصل معها الى رتبة مستشار للمفتي، بل مستشاره الوحيد.
وفي حقيبة المستشار، الذي تخرج في 1980 بالهندسة المدنية من جامعة حلب، ثقافات متنوعة ومن العيار الثقيل يفخر بها أيضاً، فهو ملمّ بالإنجليزية والفرنسية وبعض الايطالية، وملم بالإسلام وبتاريخه الى درجة قد لا يصدقها أحد، فقد قرأ القرآن مرات ومرات، وإلى الآن يقرأ فيه كما المسلمين، ويحفظ من الذكر الحكيم آيات طوالاً صعبة الحفظ على من لا يريده، وكله بسبب صداقة بدأت قبل 18 عاماً بينه وبين شيخ من حلب كان مبتدئاً في ذلك الوقت، حتى إن وزارة الأوقاف السورية لم تكن قد اعتمدته ليكون خطيباً في أحد المساجد.
ذلك الشيخ كان نشطاً وجاهد ليكون شخصاً مهماً، فصعد الدرج وأصبح مفتياً لسوريا، وفي الحال تذكر صديقه المسيحي وفاجأه في مثل هذا الشهر من عام 2006 بأجمل هدية، كتب له رسالة رسمية من دار الإفتاء يعلمه فيها بتعيينه مستشاراً له لشؤون العلاقات المسيحية الإسلامية، ومن بعدها قال له: "اترك صفة مستشار لشؤون العلاقات، وقل واكتب دائماً إنك مستشار عام في كل شيء"، ومن يومها ذاع صيت المستشار الحاصل أيضاً على الجنسية اليونانية. |
|
أحياناً أشارك بصلاة الغائب على أحدهم وكنا اتفقنا خلال الحديث عبر الهاتف أن يكون قسم من المقابلة على شكل أسئلة مختصرة وسريعة تقابلها إجابات مختصرة منه أيضاً، وحين وافق سألته:
* إذا كنت تعمل من دون راتب كما تقول فمن أين تعيش إذن؟ - من عملي كمهنس مدني، فعندي مكتب للهندسة، وأنا استشاري في "مكتب السلام" للهندسة بحلب.
* لماذا لا تطالب المفتي براتب لوظيفتك كمستشار؟ - أنا لا أطالب، ولكني أرغب من وزارة الأوقاف في تصحيح وضعي وصفتي كمستشار لسماحته عبر التعاقد معي بهذه الصفة، لا من أجل الراتب، إنما لتكون الأمور على المستوى الحكومي العام.
* ألم تسبب لك الوظيفة بعض الحرج؟ - أبداً. ولا تنسى أننا في سوريا. لو كنت في غيرها لما أصبحت مستشاراً لسماحة المفتي بالتأكيد، فنحن منفتحون وأنا الآن أنشط لإتمام ترخيص لبناء مسجد جديد في حلب قريباً. يعني أنا المسيحي أسرع لأرى المسجد وقد باشروا بناءه، وفي هذا ما أفخر به أيضاً.
* والمسيحيون، ألا يزعجونك؟ - قلة منهم، وهناك عدد صغير من رجال الدين لديهم تحفّظ بسيط جداً ولا تلاحظه بالمرة.
* والمسلمون؟ - قلة قليلة أيضاً، منهم حتى في مكتب سماحة المفتي.. لنقل إنها غيرة فقط، وهذا طبيعي.
* هل أنت مسيحي متديّن؟ - طبعاً، وأحمل معي دائماً "السبحة الوردية" أم 10 حبات.
* أقصد الذهاب الى الكنيسة كل أحد وغيرها من الطقوس.. هل ترتاد الكنائس؟ - بالتأكيد، يعني كأي مسيحي آخر. وأمارس أيضاً بقية الشعائر، إلا الصيام الأربعيني.. أنا لا أصومه، بعكس زوجتي وأولادي الثلاثة.
* وتحمل معك نسخة صغيرة من الإنجيل كلما سافرت مع المفتي؟ - لا، لا أحمل معي شيئاً، يعني حقيبة كمعظم المسافرين. ولكني أقرأ الإنجيل أحياناً.
* ألا تشارك المسلمين بشيء، يعني صيام أو صلاة مثلاً؟ - دينياً لا أشارك، والسبب هو احترامي للإسلام، فأنت لا تستطيع أن تكون مزيفاً لإرضاء الآخرين فتخدعهم من حيث لا يدرون. يعني التزييف واضح إذا صمت مع المسلمين. أنا أدخل المساجد لكني لا أصلي فيه، وكله احتراماً للدين وأتباعه وعدم ممارسة التزييف.
* قد يصدف أحياناً أن المفتي يكون في وضع ديني أو اجتماعي يضطرك معه للمشاركة كما وكأنك مسلم، فماذا تفعل في مثل هذه الحالة؟ - لم يحدث معي أي اضطرار سابقاً، فالجميع يعرفون أنني مسيحي في سوريا. مرات أدخل الى المسجد للمشاركة في صلاة الغائب على أحدهم مثلاً، فأقف مع الواقفين وأكبر مع تكبيراتهم متوجهين جميعناً الى الله.. الله الواحد للجميع.
* والمفتي ألا يشاركك بشيء، كهدية يقدمها لك في عيد الميلاد مثلاً؟ فهم يصفونه بمنفتح الى أقصى حد. - قد لا تصدق، ولكن سماحة المفتي اعتاد في كل عيد ميلاد أن يقدم لي أروع هدية، فهو يذهب معي الى البيت ليقابل والدتي، وما أن يراها حتى يمسك يدها ويقبلها، وهذه أعظم هدية وقمة بالتسامح وفهم الآخر.. المفتي إنسان رائع.
* هل صدف أن ظهر منه موقف رائع بالتآخي الإسلامي- المسيحي مثلاً؟ - هناك مواقف كثيرة. في احدى المرات مثلاً، وكان ذلك خلال الصوم الأربعيني للمسيحيين قبل 4 أو 5 أشهر، زرناه في مزرعة له بحلب برفقة المطران أنطوان أودو (رئيس طائفة الكلدان بسوريا) فرغب المفتي في دعوتنا للطعام مع علمه بأن المسيحي لا يتناول أنواعاً معينة من المأكولات خلال الصوم، كاللحوم مثلاً وغيرها، فقام سماحته بنفسه الى المطبخ وأعد لنا الطعام الذي يناسب الصوم المسيحي.. هذه قمة أخرى من مواقفه حقيقة ولا أنساها، لذلك فهو أخي في الإنسانية.
ويقول المستشار نصر الله إنه يشعر بأنه مسلم استدلالاً من مسيحيته "يعني أنا مسلم أتبع ديانة المسيح، لأن القرآن الكريم اعتبر المسيحي أو اليهودي من ملة النبي إبراهيم حين قال في سورة الحج: (ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل)".
وذكر المهندس نصر الله، الحاصل في 1984 على دبلوم دراسات عليا في تاريخ وفلسفة العلوم لدى العرب والمسلمين من جامعة حلب أيضاً، أنه لا يأكل ولا يشرب أمام أحد في شهر رمضان "بل أمضي الى البيت وهناك أتناول طعامي ثم أخرج منه، وكله كي لا أسبب حرجاً للناس الذين أحترم ديانتهم، فلا يجوز أن تتلذذ بالطعام والشراب أمام إنسان يمارس دينه تعبداً لخالق تؤمن به أنت أيضاً ويكتوي بالجوع أمامك، فهذه قلة أخلاق".
والمستشار مفتون تقريباً بالرئيس بشار الأسد الى درجة وضعه معها في المرتبة الثالثة بعد الله وسوريا، وقال إنه التقى به مرات عدة في المناسبات "لكني لم أتحدث اليه، وكم أرغب في ذلك حقيقة". أما الرابع مرتبة في التصنيف بالنسبة للمهندس نصر الله فهو صديقه منذ أوائل تسعينات القرن الماضي: مفتي سوريا الشيخ بدر الدين حسون.
ويطالع المستشار "العربية.نت" باستمرار، بل "يستنسخ" منها موضوعات ليضمها الى موقع "عالم بلا حدود" على الإنترنت، وهو موقع أسسه ابنه البكر إميل البالغ من العمر 26 عاماً، فيكتب فيه مقالات تضم أفكاره ورأيه في آخر المستجدات، كما يغذيه بأخبار وموضوعات ومواقف لها حدود طبعاً، وحدها الأهم هو أن لا تؤذي مشاعر وديانة |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لادراج تعليق :-
اختر " الاسم/عنوان url " من امام خانة التعليق بأسم ثم اكتب اسمك ثم استمرار ثم التعليق وسيتم نشرة مباشرة